- 2010/12/29
- ثقافة وفنون
- الزيارات: 3٬217
- التعليقات: 2
الجراثيم الفكرية
كان الناس قديما يصابون بالأمراض، فيموتون من دون أن يعلم أحد سبب وفاتهم، وكان يأتي أحيانا طاعون، فيقضي على العشرات والمئات وربما الآلاف، فيغادرون الدنيا، من غير أن يعلموا على وجه اليقين سبب ذلك، وحتى من يبقون على قيد الحياة لا يجدوا للأمر تفسيرا، سوى أن ينسبوه إلى أشياء خارقة، فيريحون أنفسهم من عناء التفكير في القضية..
وظل الأمر على هذه الحال، حتى جاء من يدلهم على مسببات الأمراض التي كانت تصيبهم وتفتك بهم فسماها جراثيم، بعد ذلك أمكن أن يوجد مضادات لتلك الأجسام المميتة القاتلة ويقضي عليها.
لكن الجراثيم ليست بيولوجية فقط، بل فكرية أيضا، وإذا كانت الأولى قد تجند لها أهلها، وتمكنوا من اكتشاف الكثير من أسرارها، فإن الثانية لا زالت لم تحض بالاهتمام المطلوب، ولازالت تفتك بالناس وبالمجتمعات، وأحسب أن مالك بن نبي من أكثر الذين حاولوا كشف خبايا عالم الأفكار، فقد استطاع تتبعها، وجردها، ودراستها، فقسمها إلى أنواع ثلاثة:
أفكار ميتة، وأفكار قاتلة، وأفكار مقتولة؛ كل نوع له خصائصه ومميزاته.
فالأفكار الميتة هي المنقولة عن الآباء والأجداد بدون تفكير؛ إنها الأفكار التي يتشربها المرء من بيئته وثقافته، فإذا كانت بيئته الاجتماعية مريضة وموبوءة كما هو الحال في مجتمعاتنا، فلا شك أن الوضع سيكون مأساويا، إلى درجة أنه يصعب إصلاح ما أفسده الدهر، وذلك أنه “إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا” ولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون…
هذه المشكلة كما يقول جودت سعيد قضية كبيرة وخطيرة، فالآباء والأجداد نحن بدونهم صفر، وإذا رفضنا ما عندهم علينا الرجوع إلى الغابة والكهف، وترك كل ما أنجزوه وقدموه لنا، كما يقول أحد العباقرة: “نحن أقزام على أكتاف عماليق”..
وهي عبارة جميلة، لكن الأجمل هو جزؤها الثاني: وهو لأننا على أكتاف عماليق فنحن نرى ما لايرونه هم، ولذلك وجب علينا أن نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.
حفظك الله يا جودت يا سعيد لولاك ما ذقت طعم هذه الآية العظيمة الجليلة الجميلة.
إن هذا المجتمع الذي ولدنا فيه، يحوي جبالا من الأفكار الميتة المتراكمة على مدى الحقب والعصور، كما يضم ركاما من الأفكار القاتلة المنقولة من الحضارات والمجتمعات الأخرى، و المشكل أنها منقولة بدون بحث أو دراسة، أو تفكير، أو تمحيص. وهو النوع الثاني في تصنيف مالك بن نبي للأفكار: إنها تلك الأفكار المنزوعة من تربتها والمغروسة في تربة مخالفة لها تماما، فهذه الأفكار حية في بيئتها، لكن نقلها إلى بيئة مغايرة يشكل تهديدا حقيقيا وخطرا ماحقا على البيئة المنقولة إليها.
أما النوع الثالث فهي الأفكار المقتولة وهي أفكار تحمل بذور الحياة تم وأدها في المهد، هذه الأفكار تنتقم ممن قتلها، ويعطي مالك بن نبي لذلك مثالا بالشورى التي تم التفريط فيها في وقت مبكر من تاريخنا الإسلامي، ولذلك كانت الدول تنهار مهما كان درجة صلاحها، كجسر فيه غش، لن يصمد طويلا.
الأفكار السليمة تنتج مجتمعا سليما مثلها، والأفكار المريضة تصيب المجتع بالكساح والشلل، علينا أن نرصد هذا النوع من الأفكار التي تقف حجرة عثرة في سبيل تقدمنا، وعلينا ألا نتسرع فنرمي بالاتهمات جزافا، من غير بينة ولا حجة ولا دليل، شعارنا “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين”، والدراسة الوافية للموضوع أو ما يسميه القرآن الإحاطة به علما “أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما”.
التعليقات: 2
هل لديك تعليق؟
- هل تريد صورة مصغرة بجانب تعليقك؟ يمكنك ذلك من خلال التسجيل في خدمة Gravatar. كما يمكنك الاستئناس بهذا الشرح.
- يرجى التعليق باللغة العربية الفصحى، وباسم مكتوب بأحرف عربية.
احسنت . . مقال ممتاز اهنيكـ على فهمك وإطلاعكـ
رحم الله صاحب الثلاثيات، مالك بن نبي واسكنه فسيح جناته
وأطال الله عمر الفلاح، جودت سعيد
وهب لنا من علمهم القليل يا قدير