- 2010/05/12
- قصة
- الزيارات: 3٬458
- التعليقات: 7
براءة مغتصبة
كان الزقاق ضيقا تتلوى دروبه، وكأنها حية تسعى، تقف على جوانبه منازل صغيرة ذات أبواب حديدية قد أنهكها الصدأ، وجدران مشقوقة أضفت عليه شعبية أكثر، ومن بينها بيت قديم؛ يحكي عن التغيرات التي طرأت على هذه المدينة الأمازيغية، متوسط الحجم، به ثلاث غرف تنم على بساطة العيش، وفي وسط الدار، تجد الفناء المليء بمزهريات تضم شتى أنواع النباتات، تجعل من الفناء حديقة غناء.
استيقظ الحسين على صوت المؤذن الذي ينبعث من الجامع الكبير، رجل في الخمسين من عمره، طويل القامة، عريض الكتفين، ذو لحية خفيفة قد نخرها الشيب، يرتدي جلبابه الصوفي و طاقيته التقليدية التي تغطي رأسه الأصلع، وكأنه أرض جرداء.
أب لإبنين و سبعة بنات،زوج أربعا منهن، خرج مسرعا نحو المسجد لصلاة الفجر، في طريقه التقى بأحد أصدقائه و كان سمسارا، فبادره قائلا:
ـ السلام عليكم أخونا الحسين.
ـ وعليكم السلام، ما بالك يا صديقي؟ أرى أنك تحمل أخبارا هامة.
فرد عليه السمسار ممازحا:
ـ أجل وكيف لي أن أعيش بدون أخبار !
ـ حسنا، هات ما عندك.
أجاب السمسار فورا:
ـ أتذكر الموضوع الذي حدثك عنه الأسبوع الماضي؟
قال الحسين باهتمام مصطنع:
ـ بالطبع أذكر، هل وجدت شيئا؟
فصاح السمسار:
ـ أحسن ما يكون، لقد بحثت كثيرا حتى وجدته.
فقال الحسين:
ـ فلنذهب للصلاة، وسأجيبك غدا بحول الله.
أجاب السمسار:
ـ سأنتظر جوابك.
رجع الحسين من صلاته، و في عقله هم كبير، دخل غرفته، و أخد يحلل ويقنع نفسه بأشياء تافهة، فغفي لبعض الوقت.
***
ـ انهضي! انهضي يا أسماء، لقد تأخر الوقت، هيا لا تثيري غضبي.
تحاول الأم أن توقظ أسماء بصوت خافت، مخافة أن تزعج الحسين.
ٳسمها السعدية، لم تكمل الأربعين من عمرها بعد، لكن ملامحها توحي بأنها قد تجاوزت الستين، غائرة العينين، شاحبة اللون، تضع منديلا رثا على رأسها الذي لم تعد كتفاها تقوى على حمله لكثرة الهموم، أما جسدها؛ فقد كان لوحة يفرغ فيها الحسين طاقاته. رغم ذلك، لم يكن ثغرها المتهدمة أسنانه يخلو من ابتسامة مخيفة!
نهضت أسماء متثاقلة وكأنها أضحية تجر إلى مذبحة. غسلت وجهها، واتجهت صوب المطبخ لتعد الإفطار لإخوتيها وأخيها البكر، الحاصل على الإجازة، لكنه كان عاطلا عن العمل، مرة يجلس مع أمثاله في رأس الدرب، ومرة يقلب البيت رأسا على عقب، مهددا أمه إذا لم تساعده في جمع المال، ليلحق بأخيه إلى اسباني.
أما أسماء، فقد كانت فتاة في ريعان شبابها، بيضاء البشرة، واسعة العينين، ضعيفة البنية، لم يسمح لها والدها بإتمام دراستها رغم تفوقها، كانت كالنحلة؛ تدب فيها الحيوية و الحركة.
اجتمعت أفراد الأسرة على الطاولة، لا شيء مميز؛ خبز الشعير الذي تطحنه الأضراس بصعوبة، و زيت الزيتون، و لا يمكن نسيان الشاي.
فغمغم الفتى:
ـ أبي أريد نقودا.
أجاب الأب باستهزاء:
ـ ألم تجد عملا بعد؟
أحس الفتى بشيء من الإهانة، فبادره بالقول:
ـ لو وجدت عملا لما بقيت هنا لأسمع إهانتك، لقد سألتك عن النقود، أريد حقي.
فاخذ الأب يطلق ضحكاته الهستيرية حتى دمعت عيناه:
ـ ماذا تقول؟ عن أي حق تتكلم؟ وما الذي يمنعك من الذهاب؟ هه؟ هل وصلت بك الوقاحة لتتحداني أيها العاق؟ هيا انصرف اخرج من بيتي.
فرد أحمد بصوت هادئ:
ـ الله يسامحك، أتظن أني سأموت من الجوع؟ حسنا.
فنهض مسرعا، و لم بعض ملابسه، وخرج مسرعا دون توديع أمه ولا أخواته.
فقال الأب، وقد انبسطت أساريره، و كأنه قد ارتاح من عبئ كبير:
ـ يوم نحس! لا أعرف لما لم أتصرف هكذا من قبل. ثم أتم كلامه وهو يمشط لحيته المتلبدة، آه! كدت أنسى، ستذهب أسماء اليوم لتشتغل عند أحد الأغنياء.
ارتعدت فرائص ٲسماء، و بان الذهول على وجهها. كيف تمكن لأب محافظ كالحسين أن يرسل إحدى بناته للاشتغال؟ وعند أناس لا يعرف عنهم شيئا.
فأطلقت الأم العنان للسانها و لأول مرة بكل جرأة:
ـ أنا لن اسمح بهذا، لقد طردت ابني من البيت ولم أقل شيئا، والآن تريد أن تبعد ابنتي، لن يحصل هذا ما دمت حية.
فاستطرد الحسين بصوت مستهزئ:
ـ انظروا من يتكلم، في آخر أيام حياتي ستنطق عجوز مثلك لتتحداني، هذا جيد، أظن انك نسيت آلام الضرب، فربما من الأحسن أن أذكرك.
فهم هاويا ببلغته على السعدية، لولا أن منعته يد أسماء:
ـ سأذهب للاشتغال، لا تغضب أبي أرجوك.
نطقت أسماء هذه الجملة ظنا منها أنها ستسعد والدها، وتحمي أمها من العذاب الذي تعيشه.
فرمي الحسين بلغته بعيدا، وقد اصطنع الهدوء:
ـ أرأيت، هذه هي ابنتي التي أعرفها، أتظنين انه بإمكانك ملء صدرها ضدي كما فعلت مع ابنك؟ لقد أحسنت تربيتها.
ثم أدار وجهه نحو أسماء و قال:
ـ هيا انطلقي بنيتي واجمعي ملابسك، سيأتي السمسار لاصطحابنا إلى بيت السيدة.
***
لم يمض وقت كثير، حتى وجدت أسماء نفسها في بيت فخم أرضيته من رخام مصقول، طليت جدرانه بألوان فاتحة، أما الأثاث الفاخر؛فيزيد من بهاء و جمالية المكان.
ـ أهلا و سهلا بالسيد عمر، أظن انك أوفيت بوعدك.
هذه هي الزبيدة، من أثرى النساء بالمنطقة، امرأة فائقة الجمال، أنيقة الملبس و مثقفة.
ـ بالطبع أوفيت بوعدي، هذا هو السيد الحسين، وهذه هي الفتاة أسماء.
ـ أسماء، جيد، إنها جميلة.
فأطرقت الفتاة خجولة لما سمعته من إطراء.
و بعد الاتفاق على الثمن الذي حددته الزبيدة؛ رحل الأب و صديقه، و بقيت الزبيدة مع أسماء، تنظر إليها بازدراء و الشرر يتطاير من عينيها:
ـ هيا اتبعيني، ولا تتظاهري بالخجل، سأريك المطبخ.
كانت الفتاة تمشي وراء الزبيدة و هي مبهرة بجمالية هذا المنزل، فقالت الزبيدة بصوت مرتفع:
ـ خذي، ارتدي هذه الملابس، و احرصي على نظافتها، وستنامين هنا بالمطبخ، هل هذا مفهوم؟
هزت الفتاة رأساها هزة خفيفة تعبر الإيجاب، وقد استغربت للتغيير الكبير الذي طرأ فجأة و بلا سبب على سيدتها.
***
ولت أيام و شهور، تعرضت خلالها أسماء لأسوء المعاملات، وسمعت أقبح الكلمات، ولقيت أقسى العقوبات، أما والدها؛ فقد سال لعابه طمعا في المال، فكان يأتي كل شهر لأخذ النقود، دون أن ينتبه إلى هذه المخلوقة التعيسة أو يسأل عنها. حتى هذا اليوم، الذي لم تعرف الأسرة يوما مثله، والذي طبع حياتها بطابع من الحزن لم يفارقها.
***
كان يوما صافيا مشرقا، لكنه كان مظلما في عيني أسماء، تمسح غبار هذا وترتب أثاث ذاك، ففاجأها ذلك الصوت المرتفع بنبرته القاسية:
ـ جهزي غرفة ابني سيصل هذا اليوم، لا أريد أخطاء و لا مبررات، إنه يوم مميز بالنسبة لي، و إلا، فأنت تعرفينني جيدا عندما أغضب.
فردت أسماء بصوت خافت:
ـ كما تأمرين سيدتي.
ها قد وصل الابن المدلل، والتأم شمل الأسرة بعد فراق دام حوالي عام حول مائدة غداء فاخرة، وأسماء تلبي طلباتهم التي لا تنتهي،وكأنهم لا يتلذذون بالطعام بل بإرهاق هذه المسكينة.
لينتبه الفتى إليها، كانت أسماء تحاول أن تتملص من نظراته تلك، كانت تعرف أنها نظرات غير بريئة بالمرة.
كان شابا وسيما، جميل الهندام، ينتابه شيء من الغرور و التكبر، يحسب الحياة لعبة مثيرة يجب الاستمتاع بها كلما توفر المال والجاه.
و مر اليوم كله والعائلة تتجاذب أطراف الحديث عن المشاريع المخططة لابنها الوحيد.
***
أظلم الليل، و القمر يتألق في السماء، فأضفى عليها رونقا فضيا ساحرا، وما كان من أسماء، إلا مراقبته بعينين حزينتين، فربما كانت تسأله عن أحوال أمها و اخوتيها. فعكر ذاك الصمت وقع خطوات أقدام…
لقد كان الفتى؛ سلب من أسماء آخر شيء كانت تملكه و تفتخر به، سلب منها هذا الوحش شرفها و هدم عرضها اللذان حافظت عليهما بكل قوة و شجاعة.
ماذا ستفعل؟ وإلى أين ستتجه؟ كيف ستصارح والديها بذلك؟ هل تنتحر؟ هل تقتله؟ آلاف التساؤلات كانت تدور في رأسها الصغير، والدموع الغزيرة تنهمر فوق خديها.
أصبح الصباح، فلم تجد سوى حل واحد؛ أن تطلب المساعدة من سيدتها.
وقفت قرب الأريكة التي كانت الزبيدة جالسة عليها وتمتمت:
ـ سيدتي، أريد التحدث إليك.
فردت الزبيدة بنبرة حادة:
ـ ما الأمر؟ لماذا تزعجينني؟ ألا ترين أنني منشغلة؟
ـ آسفة سيدتي، لكنني أردت التحدث إليك بشيء يخص ابنك.
فظهر الإهتمام في وجه الزبيدة وأردفت قائلة:
ـ ابني؟ ماذا تقصدين؟
فاغرورقت عينا أسماء بالدموع وأجابتها:
ـ لقد… لقد… دخل المطبخ في الليل، و… و…
فقاطعتها المرأة غير مبالية:
ـ آه، فهمت، حسنا، لا تقلقي، سأتدبر الأمر، اذهبي إلى عملك الآن.
ـ شكرا سيدتي، لن أنس معروفك أبدا.
انشرح قلب أسماء، وزال الخوف من قلبها، ونسيت لوهلة كل ما بدر من هذه المرأة من سوء المعاملة.
بعد زوال نفس اليوم؛ اتصلت الزبيدة بالأب، وأمرته بالحضور فورا.
فاستقبلته بابتسامتها المصطنعة:
ـ أهلا و سهلا بالحسين تفضل اجلس.
فرد الحسين مجاملا:
ـ شكرا لك.
فقالت الزبيدة متظاهرة الاهتمام:
ـ أتعرف لماذا اتصلت بك؟
ـ لا، لا أعرف، خيرا إن شاء الله؟
ـ لا أظن انه خير بالنسبة إليك، أقصد أن ابنتك تورطت بعلاقة مع الحارس و…
دارت الأرض بالحسين، وخرست أذناه، وغلى الدم في عروقه، واحمرت عيناه، لقد ضاع شرفه، لقد مرغت هذه الفتاة وجهه بالأرض، ونكسته بعدما كان اشرف أهل الحي، فأصبح يحس بجدار رجولته ينهار و يدمر. ثم سمع صوتا يناديه من جديد؛
ـ سيد حسين، أظن أنك تسمعني، آمل ألا تتصرف مع أسماء بقسوة وعنف، إنهما يحبان بعضهما وهذا ما في الأمر.
ـ أريد أن آخذها، لقد انتهى عملها هنا، ناديها أرجوك.
ابتسمت الزبيدة ابتسامة خبث وشر:
ـ أسماء، أسماء، بنيتي، تعالي قليلا.
فجاءت أسماء مسرعة وهي تجفف يداها من الماء في ملابسها، لكنها تفاجأت عند رؤية والدها.
فقطعت الزبيدة تفكيرها قائلة:
ـ لقد أخبرت أباك بعلاقتك مع الحارس، وأظن أنه سيتفهم، لا تقلقي، وبالمناسبة، سأساعدكما في إقامة حفل زفاف.
ارتعد جسد الفتاة، لم تعد تعي أي شيء، أي حارس؟ وأي زفاف؟
أما الأب، فلم يتمالك أعصابه؛ بل أسرع إلى أسماء، وشدها من شعرها وبدأ يجرها خارجا كالثور الهائج، يركلها ويبصق في وجهها. لكن أسماء، كانت تكتم ألمها بكل صبر. وهكذا وصلا إلى البيت. حاول بعض الناس التدخل؛ لكن الأب كان يتوعد كل من اقترب منهما.
دخل البيت، ونهضت الأم مسرعة وهي تصرخ وتلطم خديها:
ـ ماذا يجري؟ ماذا هناك؟ لماذا تجر ابنتك هكذا؟ ماذا فعلت؟ حرام عليك، اتركها.
فدفعها الأب بعيدا، ودخل المطبخ، ثم حمل سكينا غمدها في قلب أسماء، فسفك دما طاهرا يشهد على براءة هذه الفتاة، التي عانت من ظلم هؤلاء الناس، الذين لا يعرفون شفقة ولا رحمة، بل همهم الوحيد هو مصالحهم الخاصة.
***
دفنت جثة أسماء، وقبض على الحسين بتهمة القتل العمد، ورجع أحمد إلى البيت ليعيش مع أخوتيه. أما السعدية؛ فهي الآن بإحدى المستشفيات للأمراض العقلية.
التعليقات: 7
هل لديك تعليق؟
- هل تريد صورة مصغرة بجانب تعليقك؟ يمكنك ذلك من خلال التسجيل في خدمة Gravatar. كما يمكنك الاستئناس بهذا الشرح.
- يرجى التعليق باللغة العربية الفصحى، وباسم مكتوب بأحرف عربية.
جميلة هذه القصة….ومؤثرة!
عندما يجعل المال كل من حول الإنسان إلى كلاب ضالة…كل همها هو جمع أكبر قدر منه.
شكرا على القصة الرائعة, لكن لماذا يمثل الشخص الشرير الشخص المتدين والمحافظ على الصلاة؟! هذا لا يجوز, يجب التعديل وشكرا.
بعثرتي ابتسامتي بهذه القصة،
سلمتِ
كوني بصحة
الى الاخ “الزائر الغريب” لقد اخترت تصوير الشخص الشرير في شخص متدين ،لان المسلمين الان قد غفلوا أن الاسلام دين سلوك و معاملات ،بل هو في نظرهم صلاة و زكاة و صوم و حج
و لا اظنك متفق ان هذا هو الدين الذي جاء به خير البشرية ،صلى الله عليه و سلم
وشكرا
أنا زميلك في الاعدادية
قصة راااااااااااااااااااااااااااااااائعة و أتمنى لك التوفيق
ما شاء الله عليك اختي. قصة مشوقة و اسلوب ممتاز في الحكي . أتمنى أن تواصلي كتاباتك.
كل شيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده و الأدب وحده الذي لا ينقلب الى ضده اذا زاد عن حده,,,
مزيدا من الابداع
بالتوفيق الاخت كوثر